سورة يونس - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


{وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية التي قبلها لفتت المشركين إلى وضعهم الذي هم فيه، وأنهم خلائف قوم قد ظلموا، فأخذهم اللّه بظلمهم، وأهلكهم بذنوبهم، وأن هؤلاء المشركين، هم الآن في وجه امتحان امتحنت به الأمم قبلهم، وهو أنه قد جاءهم رسول بآيات اللّه، كما جاءت الرسل من قبله إلى الأمم السابقة بآيات اللّه إلى أقوامهم.. فماذا سيكون من هؤلاء المشركين مع رسول اللّه المبعوث إليهم، ومع آيات اللّه التي بين يديه؟ أيكفرون به كما كفر من كان قبلهم، ويتعرضون لنقمة اللّه كما تعرض السابقون؟ أم يؤمنون باللّه، ويتبعون الرسول، فتسلم لهم دنياهم وأخراهم جميعا..؟
هذا ما ستكشف عنه الأيام منهم.. إنهم في مواجهة تجربة وامتحان، فليأخذ العاقل منهم حذره، وليطلب النجاة والخلاص لنفسه.
وفى هذه الآية ينكشف وجه المشركين، ويظهر موقفهم من رسول اللّه، وهم يأخذون الطريق المعاند له، المتأبى عليه.
فناسب أن تجىء هذه الآية بعد الآية التي سبقتها.. لما بينهما من التلاحم والاتصال.
وفى قوله تعالى: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ}.
أولا: وصف الآيات بأنها بينات، يدلّ على أن من عنده أدنى نظر يستطيع أن يبصر وجه الحق في هذه الآيات البينة المشرقة، وأن يهتدى بها، ولا يجادل فيها، أو يقف موقف الشك والعناد منها.
وثانيا: أن هذا القول المنكر الذي قيل للنبىّ فيه: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ} لم يقله إلا الذين لا يرجون لقاء اللّه، ولا يؤمنون بالبعث.
فهم بهذا لا يبالون بأى حديث يحدثهم به عن الآخرة، ويخرج بهم عما هم فيه من استمتاع بحياتهم الدنيا، واستفراغ كل جهدهم فيها.
وثالثا: قولهم: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ} يكشف عن ضيقهم بالقرآن، وما يحدّث به عن آلهتهم، وبما يسفّه فيه من أحلامهم، ويفضح من ضلالاتهم.. فهم يريدون قرآنا يبقى على معتقداتهم، ويزكّى عاداتهم، ويحتفظ للسادة منهم بأوضاعهم.. فإن لم يكن من الممكن أن يأتى الرسول بقرآن غير هذا القرآن، فليبدل من أوضاعه، وليغير من وجهه، وليقمه على الوجه الذي يرضيهم، ويلتقى مع أهوائهم.. وهنا يلتقون مع النبي، يستجيبون له! وفى قوله تعالى: {قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي.. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ.. إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.
أولا: أن مسألة إتيان النبىّ بقرآن غير هذا القرآن، أمر غير ممكن، بل مستحيل عليه استحالة مطلقة.. لأنّ القرآن كلام اللّه، منزل عليه وحيا من ربه.. فليس له- والأمر كذلك- سلطان يملك به عند اللّه أن ينزل عليه قرآنا غير هذا القرآن.
وفى هذا ردّ ضمنى على المشركين بأن القرآن من عند اللّه، وليس من عند محمد، إذ لو كان من عند محمد، لكان إلى يده تغييره أو تبديله.
وثانيا: مسألة التبديل، والتغيير في القرآن، وإن كانت أمرا ممكنا في ذاته، إذ لا يتأتّى القرآن على من يجرؤ على التبديل والتحريف فيه- وإن كان اللّه سبحانه وتعالى: قد حرسه من التبديل، وحفظه من التحريف، كما يقول تبارك وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} نقول: إن مسألة التبديل في القرآن، وإن كانت ممكنة في ذاتها، فإن محمدا لن يفعل ذلك من تلقاء نفسه، فذلك خيانة للّه في الأمانة التي ائتمنه عليها، وعصيان له فيما أمره به في قوله سبحانه: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ}.
وليس وراء العصيان للّه، والخيانة لأمانته إلا العتاب الأليم والعذاب العظيم.. كما يقول سبحانه: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ} [44- 47 الحاقة].
وثالثا: أن الرسول، وهو من هو عند ربه، حبّا وقربا، يخاف عذاب اللّه، ويخشى عقابه إن هو عصاه، وخرج عن أمره، وغيّر وبدل في كلماته.
فما لهؤلاء المشركين لا يخشون اللّه، ولا يخافونه، وقد عصوه هذا العصيان الحادّ بالشرك به، وبتكذيب رسوله، والآيات التي أنزلها على رسوله؟ ألا يخافون بأس اللّه؟ ألا يخشون عقابه؟ {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ} [99: الأعراف].
قوله تعالى: {قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ.. أَفَلا تَعْقِلُونَ}.
فى هذه الآية تنبيه للمشركين، وإلفات لهم، إلى ما هم فيه من عمّى وضلال.
فلو أنهم عقلوا شيئا، لعرفوا أن محمدا قد عاش فيهم أربعين سنة غير قارئ ولا كاتب، ولا متحدث إليهم بأى حديث مما يحدثهم به الآن من كلام اللّه الذي أوحى به إليه، بعد هذا العمر الطويل، الذي عاش فيه مع نفسه، منقطعا إلى ربه! ولكن هكذا شاء اللّه لمحمد أن يكون مستقبل وحيه، ومتلّقى كلماته، ومبلّغ آياته.
ولو شاء اللّه غير هذا لكان، فلم يكن محمدا رسولا، ولا مبلغ رسالة، ولا مسمعا الناس هذا الذي سمعوه منه من آيات اللّه.
فمن نظر في حال محمد قبل الرسالة وبعدها، ومن طالع وجوه هذه الآيات السماوية التي نزلت عليه، لم يقم عنده أدنى شك في أن محمدا هو رسول اللّه، وأن ما يحدّث به عن اللّه هو من عند اللّه، ومن كلمات اللّه.. ذلك مع صرف النظر جانبا عما في آيات اللّه نفسها من دلائل الإعجاز، التي تشهد بأنها ليست من قول بشر، وأنها من كلام رب العالمين.
قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ}.
فتراء الكذب على اللّه، هو اختلاق القول عليه، وتقوّل الأحاديث عنه، بإيرادها ابتداء، أو بالتبديل والتحريف فيها.
فأظلم الظالمين من يجرؤ على ركوب هذا المركب المهلك فيتقول على اللّه، ويفترى الأحاديث عليه.
وأظلم الظالمين من يرى آيات اللّه، ويستمع إليها.. ثم يكذب بها، ويصم أذنيه عنها، ويغلق عقله وقلبه دونها.
فهذه وتلك من الجرائم التي تورد مرتكبيها موارد الهلاك والبوار: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ}.
قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ.. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنها تكشف عن افتراء المشركين على اللّه وتكذيبهم بآياته. الأمر الذي عدّه اللّه سبحانه وتعالى جريمة عظمى، توعد مجرمها بالخزي والخسران.
فقد عبد هؤلاء المشركون آلهة اتخذوها لهم من دون اللّه، وقالوا عنها:
{هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ} وقالوا.. {ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى}.
وهذا افتراء على اللّه.. وقد كذبهم اللّه وفضحهم بقوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ؟} أي أتتحدثون إلى اللّه بما لا يعلم اللّه له هذا الشأن الذي تتحدثون به عنه، لا في السموات، ولا في الأرض؟ إنه شيء لا وجود له.. وإذا كان لا وجود له في علم اللّه، فهو غير موجود أصلا، ولا يوجد أبدا.. إنها أوهام وضلالات، لا توجد إلا في عقولكم، وهى محض افتراء واختلاق.. تنزّه اللّه سبحانه وتعالى عن أن يكون له شريك، أو شفيع من خلقه، فضلا عن أن يكون هذا الشريك أو الشفيع من واردات الوهم والاختلاق!.
وفى قوله تعالى: {ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} إزراء بهؤلاء المشركين، وتسخيف لأحلامهم، إذ أعطوا ولاءهم وعبوديتهم ما لا يملك لهم ضرّا ولا نفعا.. وليس أخسر صفقة ولا أضلّ سعيا، ولا أحمق عقلا، ممن يتعامل مع مالا يدفع عنه ضرّا، ولا يجلب له نفعا، فإن العاقل لا يأخذ وجهة إلى عمل، ولا يبذل له جهدا، إلا وهو على رجاء من أن يدفع من وراء ذلك شرّا، أو يحصّل خيرا. وإلا فهو عابث لاه، يضيّع عمره ويستهلك جهده، ويهلك نفسه!.
وتقديم دفع الضرّ على جلب النفع أمر طبيعى، مركوز في الفطرة الإنسانية، حيث يعمل الإنسان أولا على تأمين نفسه، وحراستها مما يعرّضها للهلاك، فإذا ضمن الإنسان الإبقاء على وجوده كان له أن يطلب ما يحفظ عليه هذا الوجود.. وهو جلب المنافع.. وفى مقررات الشريعة: دفع المضارّ مقدم على جلب المصالح.
قوله تعالى: {وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، وعطفها عليها، أنها تكشف عن جناية هؤلاء المشركين على الإنسانية، وأنهم هم الدّاء الذي تسلط على الإنسانية قديما وحديثا، فأدخل على كيانها هذا الفساد، الذي يتمثل من وجودهم في الجسد الإنسانى.
فالناس- في أصلهم- فطرة سليمة، مستعدة للتهدّى إلى الإيمان باللّه، والاستقامة على الخير والحق.. كما يقول الرسول الكريم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه وينصرانه ويمجّسانه».
وكما تعرض العلل للجسم السليم كذلك تعرض الآفات والعلل للمجتمع الإنسانى، فيظهر فيه المنحرفون الذي يخرجون عن سواء الفطرة، وسرعان ما يسرى هذا الدواء، وتنتشر عدواه في المجتمع.
ومن هنا يكون الناس على أشكال مختلفة، وأنماطا شتّى.. كل يركب طريقا، ويأخذ اتجاها.
ومن هنا أيضا يختلف الناس، وتختلف بهم الموارد والمشارب.. وإذا كلّ جماعة على مورد، وكل أمة على مشرب.. {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ.. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ.. وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ} [118- 119: هود].
وقد كان جديرا بهؤلاء الضالين أن ينظروا إلى أنفسهم، وإلى موقفهم المنحرف الذي خرجوا به على الفطرة الإنسانية، فركبوا طريق الكفر والضلال، وكان من شأنهم أن يكونوا مع الناس أمة واحدة مؤمنة باللّه.
وفى قوله تعالى: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} إشارة إلى ما سبق أن قضى به اللّه سبحانه وتعالى من إمهال الظالمين، والعاصين، وأهل الكفر والضلال، وإنظارهم إلى يوم البعث، والجزاء- وأنه لولا ذلك القضاء الذي قضى به اللّه سبحانه وتعالى، لأخذ على يد كل ضالّ ومنحرف، في هذه الحياة الدنيا، ولأوقع الجزاء عاجلا منجزا، فلا يبقى في الناس ضال أو مفسد.
فالمراد بالكلمة التي سبقت من اللّه سبحانه، هى حكمه وقضاؤه، بأن يؤخّر الناس ليوم الدّين، وأن يوفّى الناس جزاء أعمالهم، فيكون منهم أهل النار، كما يقول سبحانه: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [119: هود].


{وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} هو عطف على الآية قبل السابقة، وهى قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} (آية: 18).. أما الآية (19) وهى قوله تعالى: {وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} فهى معترضة بين الآيتين، لتكشف عن واقع هؤلاء المشركين، ولتبيّن لهم أنهم أخذوا طريقا منحرفا عن الطريق العام الذي كان من شأنهم أن يستقيموا عليه، لأنه في الأصل، هو طريق الإنسانية كلّها.. ومن ضلالات هؤلاء المشركين أنهم يعمون عن آيات اللّه، ويعشون في ضوء صبحها المشرق الوضيء، فلا يرون فيها مقنعا لهم بأنها من عند اللّه، وأن الرسول الذي يتلوها عليهم هو رسول اللّه.. فيقولون للرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه: {ائت بقرآن غير هذا أو بدله..}!
وإذ يؤبسهم الرسول من إجابة مقترحهم هذا بقوله الذي أمره اللّه سبحانه أن يلقاهم به: {قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} تجرى الأحاديث فيما بينهم في تساؤل جهول عقيم: {لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}؟.. وهم يريدون بتلك الآية آية حسيّة كتلك الآيات التي جاء بها موسى وعيسى عليهما السلام.
كما ذكر القرآن ذلك عنهم في قوله تعالى: {فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [25: الأنبياء].. ولو أنهم عقلوا لعرفوا أن اللّه سبحانه قد رفع قدرهم، وأعلى في الناس منزلتهم، إذ جاءهم بمعجزة تخاطب عقولهم، وتتعامل مع مدركاتهم، ولم يأتهم بمعجزة تجبه حواسّهم، وتستولى على عقولهم، وتشلّ حركة تفكيرهم.. إن اللّه سبحانه قد ندبهم للتعامل مع هذه المعجزة العقلية، يدركون إعجازها ببصائرهم لا بأبصارهم، ويتناولون قطافها بمدركانهم لا بأيديهم، ولكنهم أبوا إلا أن يكونوا أطفالا لا رجالا.. وقد أنكر اللّه عليهم هذا الموقف، الذي وقفوه من القرآن الكريم، ورأوا أنّه غير مقنع لهم، كدليل سماوى.. فقال سبحانه وتعالى: {وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [50- 51: العنكبوت].
والقوم لم يكونوا على غير علم بما في آيات القرآن الكريم، وما فيها من إعجاز متحدّ لقدرة الإنس والجن.. فهم أقدر النّاس على نقد الكلام، والتعرّف تعرفا دقيقا على الفرق بين حرّ جواهره وزيفها، وجيّدها ورديئها.
ولقد بهرهم القرآن الكريم، فأخذوا به، وسجدوا- على كفرهم- لجلاله، وسطوته، وقالوا فيه: {إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ}.
ولكنهم كانوا على عناد وكبر واستعلاء.. يأبون أن ينقادوا لبشر منهم، وأن يعطوا ولاءهم له..!
كما يقول اللّه تعالى على لسانهم. {أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [24- 25: القمر].
فهذه المقترحات التي يقترحونها على النبىّ إن هى إلا تعلّات يتعلّلون بها لأنفسهم، ويرضّونها بهذه العلل، حتى لا تنزع بهم إلى الاستسلام لهذه القوة القاهرة التي تطلّ عليهم من عل، في كلمات اللّه، وآيات اللّه.. وقد كشف اللّه سبحانه وتعالى عن هذا الشعور المتسلط عليهم، والذي يسوقهم إلى ركوب هذه الشاقّة، والتعلل بهذه العلل، فقال تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [14- 15: الحجر].
وفى قوله تعالى: {فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} ردّ، وجبه لهؤلاء المشركين فيما يقترحونه على النبىّ من آيات ماديّة محسوسة، كأن يطلعهم على ما يأكلون، وما يدّخرون، وما يقدّرون لهم في تجاراتهم وأعمالهم، من ربح أو خسارة، ونحو هذا.. فذلك ليس لبشر أن يعلمه، وإنما هو مما استأثر للّه سبحانه وتعالى بعلمه.. لا يشاركه فيه أحد من خلقه.. وقد أمر اللّه سبحانه النبىّ أن يعلن في الناس أنه لا يعلم من الغيب شيئا، فقال كما أمره اللّه سبحانه أن يقول:
{وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [188: الأعراف].
وفى قوله تعالى: {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين، الذين أمسكوا بأنفسهم، على هذا المرعى الوبيل من الضلال والشرك، عنادا، وجماحا.. فلينتظروا، والنبىّ منتظر معهم، وسيرون وسيرى من تسكون له عاقبة الدار.. {قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [135: الأنعام].
قوله تعالى: {وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ}.
الذّوق، والتذوّق: الإحساس بطعم الشيء ومداقه، حلوا، كان أو مرّا.
والرحمة: النعمة، والخير.
والضرّاء: الضّرّ، والسوء، والشرّ.
والمسّ: لمس الشيء لمسا رقيقا.
والآية الكريمة تحدّث عن كفر {النّاس} بنعم اللّه، وجحودهم لأفضاله.. وأنهم إذا مسّهم الضرّ جزعوا، واستكانوا، وضعفوا.. وإن أصابهم الخير، وجرى عليهم النعيم.. طغوا، وبغوا ولبسوا جلود الأفاعى والنمور.
وفى الآية تعريض بالمشركين، وبمكرهم بآيات اللّه التي جاءهم بها رسول اللّه، هدى ورحمة، ليستنقذهم بها من ضلالهم، وليخرجهم بها من عمى الجاهلية، وسفهها، وليضفى عليهم الأمن والسلام بعد أن مزّقتهم الحروب، وعصفت بهم ريح البغي والعدوان.. وفى هذا يقول اللّه تعالى مذكّرا إياهم بما ساق إليهم من رحماته ونعمه، بهذه الرسالة الكريمة المباركة، وبهذا الرسول الكريم المبارك.. يقول تبارك وتعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها} [103: آل عمران].
وفى قوله تعالى: {إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا} إشارة إلى موقف المشركين من آيات اللّه، والمكر بها، والتعلل بالعلل الصبيانية علمها.
وفى قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ} نذير شديد للمشركين، وأنهم إذا مكروا بآيات اللّه، فلن يفلتوا من عقاب اللّه.. إنهم يعلنون على اللّه حربا هم فيها المخذولون الخاسرون.. إنهم يبيّتون الشر، ويدبرون له، واللّه سبحانه بعلمه وقدرته مطلع على ما يبيّتون، مفسد ما يدبرون.
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
فى هاتين الآيتين، مظهر من مظاهر مكر الماكرين بآيات اللّه، وكفرهم بنعمه السابغة عليهم.
فما أكثر ما يركب الناس البحر في ريح رخاء، تصحبهم فيه السكينة والبهجة، ثم على حين غرّة يموج بهم البحر ويضطرب، وتزمجر حولهم العواصف، وتصرخ بهم الريح في جنون مخيف.. وإذا الهلع والفزع، وإذا الكرب الكارب، والهذيان المحموم، يشتمل على من في جوف السفين، الذي يبدو وكأنه دودة على ظهر هذا الكون العظيم!.
ولا ملجأ من هذا الموت الفاغر فاه، ولا عاصم من هذا الهلاك المطلّ من كل مكان، إلا اللّجأ إلى اللّه، والاستصراخ له، والاستنجاد به.. فتتعالى صيحات الصائحين، واستغاثات المستغيثين، وضراعات المتضرعين.. في غير اقتصاد أو انقطاع.
وتجىء رحمة اللّه في إبّانها.. فتهدأ العاصفة، ويخفت صوت الريح.
وإذا البحر قد عاد ساكنا هادئا، وإذا السفين على ظهر حنون ودود، يهدهده كما تهدهد الأم رضيعها، حتى يبلغ السفين بأصحابه شاطىء الأمن والسّلامة، ويأخذ كل واحد من الركب وجهته، ثم لا يعود يذكر للّه شيئا ممّا صنع به.. وإذا هو في ضلاله القديم.. مشرك باللّه، كافر بنعمائه!- وفى قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} إشارة إلى تلك النّعم التي سخّرها اللّه للناس، في انتقالهم من بلد إلى بلد، ومن قطر إلى قطر، على مراكب البر والبحر.. في اختلاف أشكالها وأنواعها.
وفى قوله تعالى: {حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} عرض لحالة من أحوال السفر التي تعرض أحيانا لراكب البحر.. وقد ذكرها القرآن الكريم هنا، ليكشف بها عن حال من أحوال الذين يكفرون بآيات اللّه، ويجحدون ما يسوق إليهم من نعم.
وقد جاء النظم القرآنى في قوله تعالى: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ} بنون النسوة التي هى للعقلاء، مستعملا إياها للفلك، وهى غير عاقلة، وكان المتوقع أن يجىء التعبير هكذا: وجرت بهم.
وفى هذا ما يشير إلى أن الفلك، وهى تجرى في ريح طيبة، وعلى ظهر بحر ساكن ساج، قد كان لها سلطان على هذا البحر، تغدو وتروح عليه كيف تشاء، وتتصرف كما تريد.. حتى لكأنها ذات عقل مدبّر، وإرادة نافذة.
وفى النظم القرآنى أيضا: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} ولم يجىء النظم هكذا: {وجرين بهم في ريح طيبة}.
وذلك ليدل على أن الريح هى التي تحرك الفلك وتدفعها، فالباء هنا باء الاستعانة، التي تدخل على الأداة التي يستعان بها على العمل، كما يقال: كتبت بالقلم، وانتقلت بالقطار.. وهذا ما لا يفيده حرف الجرّ {فى}.
الذي يجعل الريح ظرفا يحتوى السفينة من جميع جهاتها، ولا يدفع بها إلى جهة ما.
وفى قوله تعالى: {حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ}.
اختلف النظم، في قوله سبحانه: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ} فجاء على غير ما يقتضيه السياق.. وجىء بضمير الغائب، بدلا من ضمير الحضور.. هكذا: {وجرين بكم} فما سرّ هذا؟
تتحدث الآية الكريمة عن نعمة عامة شاملة من نعم اللّه، وهى تسيير الفلك في البحر، كما يقول تعالى: {وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [65: الحج] وكما يقول جل شأنه: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [12- 13:
الزخرف].
وهذه النعمة، لا يكفر بها الناس جميعا، وإنما يجحدها ويكفر بها من لا يؤمن باللّه.. وهم الذين ذكرهم القرآن الكريم بضمير الغائب، بعد أن جاء التّذكير بالنعمة موجّها إلى الناس جميعا- ومنهم هؤلاء الكافرون- في مواجهة وحضور.. وبهذا عزل الكافرون عن المجتمع الإنسانى، وأبعدوا من مقام الحضور، وحسبوا غائبين، لا وجود لهم.
وفى قوله تعالى: {إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}.
أولا: {إذا} الفجائية هنا، تنبىء عن أن هؤلاء الكافرين، لم يمسكوا بتلك المشاعر المتجهة إلى اللّه، والضارعة إليه، حين مسّهم الضر في البحر، إلا ريثما تلقى بهم الفلك إلى البرّ، حتى إذا مسّت أقدامهم اليابسة انفصلوا عن تلك المشاعر، وتخفّفوا منها، ورجعوا مسرعين إلى ما كانوا فيه من كفر وضلال وعناد.
وثانيا: وصف البغي بأنه بغى بغير الحق، مع أن البغي لا يكون إلا عدوانا على الحق، وخروجا عليه.. فكيف يلحقه هذا الوصف، الذي يفهم منه أن هناك بغيا بحق، وبغيا بغير حق؟
ذكرنا جوابا عن مثل هذا، عند تفسير قوله تعالى: {وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [181: آل عمران].
والجواب هنا، هو أن وصف بغيهم بأنه بغى بغير الحق، فيه تغليظ لهذا البغي، وإلقاء مزيد من القبح على وجهه القبيح.
فالبغى في ذاته جريمة منكرة شنعاء.
ولكنّه من أهل البغي، شيء لا يكاد ينكر عليهم، ولا يستغرب منهم.
وإذن فهو محتاج إلى أن يكون أكثر من بغى حتى ينكر عليهم، ويذمّ منهم.
فهذا البغي منهم هنا.. هو بغى على وصف خاصّ.. بغى بغير حقّ حتى عند أهل البغي أنفسهم، وهذا يعنى أنه بغى شنيع غليظ، بين صور البغي كلها.
وفى قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ} نداء للناس جميعا، وإعلان لهم كلهم- برّهم وفاجرهم- بأن البغي والعدوان، والخروج على حدود اللّه، هو بغى وعدوان واقع عليهم، وآخذ بنواصيهم.
كما يقول سبحانه وتعالى: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} [44: الروم] وفى قوله تعالى: {مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا}.
قرئ {متاع} بالنصب والرفع.. وعلى النصب- وهى القراءة المشهورة- يكون مفعولا مطلقا لفعل محذوف، تقديره، تتمتعون متاع الحياة الدنيا، وتكون الجملة حالا من ضمير المخاطبين في قوله تعالى: {إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ}.
وعلى قراءة الرفع يكون خبرا لقوله تعالى: {بَغْيُكُمْ} و{عَلى أَنْفُسِكُمْ} متعلق بالمبتدأ.
وفى قوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
تهديد ووعيد لهؤلاء الباغين، وما يلقون من عذاب أليم، يوم يرجعون إلى اللّه، ويوفّون جزاء ما كانوا يعملون من منكرات.


{إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30)}.
التفسير:
الإنسان.. وما ينزل من السماء:
قوله تعالى: {إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ..}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنها تكشف عن وجه هذه الحياة الدنيا، التي ذكرت الآية السابقة تعلق الناس بمتاعها، وركوبهم مراكب البغي والطغيان في سبيل المتاع بها.
وقد صورت الآية الكريمة هنا الحياة الدنيا في ألوانها، وزخارفها، التي تغرى الناس بها، وتفتنهم فيها- بما نزل من السماء، فخالط نبات الأرض، فأخرج حبّا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبّا، ولبست الأرض من ذلك كله حلة زاهية مختلفة الأصباغ والألوان، وبدت كأنها العروس في ليل عرسها.. ثم إذا إعصار مجنون ملتهب، يمس هذه الجنّات المعجبة، وتلك الزروع المونقة، ويضربها بجناحيه، فإذا هى حصيد تذروه الرياح، وبباب قفر يضلّ به القطا.
وفى قوله تعالى: {وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها} إشارة إلى تمكن أصحابها من جنى ثمارها، وتناول قطوفها.. إذ أصبحت ناضجة الثمار، دانية القطوف، آمنة من تعرضها للآفات التي تفسد الزهر، وتغتال الثمر.. فإذا اجتاحتها آفة وهى على تلك الحال من الجمال والنضارة، كان ذلك أوجع وأفجع لأهلها.. كما يقول الشاعر:
إن الفجيعة في الرياض نواضرا *** لأجلّ منها في الرياض ذوابلا
وفى قوله تعالى: {أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ}.
الحصيد ما حصد من الزروع بعد نضجه.. و{تغن}.
بمعنى تكون، أو توجد، على حال من الاستقرار والثبات.. يقال غنى بالمكان، أي أقام فيه واستقرّ.
وفى إسناد الاستقرار إلى الأرض، مع أن الاستقرار إنما هو لأهلها، إشارة إلى أنها بما لبسها من حياة، وما نبض في عروقها وشرايينها من دماء هذه الحياة، وما تزينت به من حلل وحلى. قد أصبحت كائنا حيّا، مستغنيا بما اجتمع له من هذا المتاع والزخرف.
وفى تشبيه الحياة الدنيا، وما يلبس الناس فيها من ألوان الحياة والسلطان، وما يقع لأيديهم منها من مال ومتاع- في تشبيه هذه الحياة بالماء الذي ينزل من السماء، فيختلط بنبات الأرض، ويلبس هذه المظاهر التي يشكلها من هذا النبات، ويصيرها جنّات وزروعا، وزهرا، وفاكهة وحبّا.
في هذا التشبيه إعجاز من إعجاز القرآن، وآية من الآيات الدالة على علوّ متنزّله.
فالإنسان عنصر من عناصر هذه الحياة، ومادة من موادها.. إنه ماء من هذا الماء.. هكذا هو في أصله ومادة تكوينه.. يقول تبارك وتعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ} [20: المرسلات].
ويقول سبحانه: {خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً} [54: الفرقان].. ويقول جل شأنه: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ} [5- 6: الطارق].
هذا الإنسان الذي هو ابن الماء.. يخالط الحياة، ويتحرك في أحشاء الوجود، وسرعان ما يصبح هذا الكائن، أو هذا الكون الذي يمشى على الأرض، وكأنه جنة قد أخذت زخرفها وازينت.. بملأ الأرض تيها وعجبا، ويمشى عليها مختالا فخورا، يكاد يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولا.
وهذا الماء الذي ينزل من السماء، ويختلط به نبات الأرض، وقد عرفت شأنه، وما يصنع من هذا النبات.. أليس هو هو الإنسان ابن الماء والطين؟ ثم أليس هذا الإنسان الذي هو محصول هذا الماء، ومنبت ذلك الطين، يصير حصيدا هشيما، كما يصير النبات ابن الماء والطين حصيدا هشيما؟
إن التطابق بين الصورتين على هذا التصوير المعجز، هو آية من آيات اللّه.. ليس في مقدور بشر أن يمسك بخيط من خيوط نسجه المحكم الرائع! وهل هذا كل ما هنالك من هذا الإعجاز في هذه الصورة؟ ومعاذ اللّه أن ينفد إعجاز كلامه، أو ينقطع جنى ثمره، على مدى الأزمان، وعلى كثرة الواردين والطاعمين.
انظر في قوله تعالى: {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ}.
وأكاد أدعك لتكشف عن سرّ هذا النظم، الذي جعل اختلاط نبات الأرض بالماء، ولم يجعل اختلاط الماء بالنبات.. هكذا: {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ}، على ما يقتضيه مفهوم النظر الإنسانىّ لهذه الظاهرة.
فالماء هو الذي يختلط بنبات الأرض، ويسرى في كيانه، فيبعث فيه الحياة، ويخرجه من عالم الموات.. هكذا نرى، وهكذا نقدّر! ولكنّ عين المقدرة ترى مالا نرى، وتعلم مالا نعلم! فإن كنت تنكر هذه القدرة، أو تشك في هذا العلم، فهات قدرتك، واستحضر علمك، وقل لى ماذا ترى هناك؟ وماذا تعلم مما بين الماء والنبات؟.
أيهما المختلط وأيهما المختلط به؟ وأيهما الفاعل وأيهما المفعول به؟
ودع عنك ما أنت فيه من نظر، وعلم.
وانظر في كلمات اللّه تلك، وخذ العلم الحق منها.
ولن أدعك كما قلت لك.. بل سأنظر معك، وأتلقى العلم في صحبتك!
الماء، والنبات.. حين يلتقيان.. ماذا يحدث عند التقائهما؟ وماذا يكون من هذا اللقاء؟
وليكن في تقديرك- قبل الإجابة على هذا التساؤل- أن المراد بالنبات هنا، هو نبات الأرض، أي بذرة النبات التي تغرس في الأرض، لا النبات حين يكون نباتا.. فإنه في تلك الحال، لا يكون مجرد نبات، بل هو الماء والنبات معا.. وأن لقاء قد كان بين الماء وبذرة النبات حتى أصبح نباتا، وإلا فهو بذرة، أو حبة، وليس نباتا وإذا تقرر هذا.. فلنجب على هذا السؤال: ماذا يحدث من التقاء الماء بالبذرة أو الحبة؟
البذرة أو الحبة التي تقلّبها بين يديك، ليست شيئا ميّتا- كما يبدو لنا- بل هى كائن حىّ، يحتفظ في كيانه بكل عناصر الحياة، التي تنتظر من يثيرها، ويدفع بها إلى الظهور.. وذلك لا يكون إلا بأمرين:
أولا: غرسها في الأرض.. وثانيا: وصول الماء إليها، وتحول تراب الأرض إلى طين بهذا الماء.
هنا تبدأ الحياة الكامنة في البذرة، أو الحبّة تتحرك، وتأخذ طريقها إلى الماء المختلط بالتراب، أعنى الطين، فتجذبه إليها، وتفتح له الطريق إلى الحياة الكامنة فيها، وتأخذ منه ما يروى ظمأها إلى الحياة، وإلى الإعلان عن وجودها، وإظهار آيات الخالق التي ائتمنها عليها.
فالبذرة أو النبتة إذن هى الطالبة للحياة، والمهيأة لها، والمتشوقة إليها.
وما الماء، وما التراب، وما الطين إلا عناصر مساعدة. فالحبة إذن هى الداعية لتلك العناصر، الطالبة للاختلاط بها.. ومن هنا جاء النظم القرآنى.. {إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا.. كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ.. فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ}!!
أرأيت إذن سر هذا النظم، الذي أسند الاختلاط بالماء إلى البذرة أو الحبة.. والذي لو جاء على عكس هذا، فأسند الاختلاط بالحبة إلى الماء، لكان خطأ علميا، يناقض ما كشف عنه علم الأحياء اليوم.
وهذا الذي حدثنك عنه لا يمثل إلا وجها واحدا من الصورة، هو وجه الماء والنبات.
أما الوجه الآخر، وهو الإنسان المقابل لهذا الوجه.. فهذا ما نقص عليك من أمره:
هذا الإنسان وإن كان نبتة من نبات الأرض، فإنه هو الماء الذي يبعث الحياة في موجوداتها، ويكشف عن القوى الكامنة.. فهو- بهذا- قائم على ذلك الوصف الذي أنبأ عنه التشبيه في قوله تعالى: {إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ}.
ويكون من هذا أن الحياة الدنيا هى هذا {الإنسان}.
وأنه لولا هذا الإنسان لما كانت تلك الحياة الدنيا، وما تنبض به عروقها من حياة دافقة، في كل وجه من وجوهها..!
فالإنسان هو الحياة الدنيا.. وهو الماء الذي يثير الحياة، بل ويخلق الحياة في كل ما على هذه الدنيا.. كما يبعث الماء الحياة في الأحياء، بل وكما تتخلق منه الحياة، كما يقول اللّه تعالى: {وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [30: الأنبياء].
وانظر مرة أخرى في قوله تعالى: {إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ}..
وضع {الإنسان} أو {الناس} مكان الحياة الدنيا تجد:
أولا: الإنسان- الذي هو من الماء- والوجود الذي أقامه هذا الإنسان من عالم الموات فكان تلك الحياة الدنيا- كالماء المنزل من السماء، وما أثار في الأرض من انطلاق الحياة الكامنة فيها.
وثانيا: الإنسان ودنياه التي صنعها بيده، ونسج خيوطها بعقله ويده- هو زرع، يبزغ، ويخضر، ويمتد، ويزهر، ويثمر، ثم يكون حصيدا هشيما، كهذا النبات الذي يملأ وجه الأرض حياة وجمالا، ثم يصير هشيما تذروه الرياح..!
وثالثا: هذا الإنسان الذي هو ابن ماء السماء.. فيه نفخة من اللّه ونفحة من روحه.. قد جاء إلى هذه الأرض من عل، فغيّر معالمها، وزين وجوهها.. تماما كما ينزل ماء الغيث من السماء إلى الأرض فتهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج.
ورابعا: الإنسان- ابن ماء السماء هذا- وإن كان علوىّ المتنزل، فإن منبته من الأرض، جاء منها، وارتفع فوق سمائها، ثم استوى عليها.
تماما كماء الغيث.. كان على الأرض، ثم كان سماء فوقها، ثم عاد إليها واختلط بها.
هذا، ولك أن تذهب إلى ما لا ينتهى، في عد ما يؤديه إليك النظر، من مطالعة وجه الآية الكريمة، على امتداد هذه النظرة.. ثم لك أيضا بعد هذا أن تدير نظرك إلى أكثر من اتجاه غير هذا الاتجاه.. وستجد معطيات كثيرة لا تنتهى..!
قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآية السابقة تحدثت عن الحياة الدنيا، وكشفت عن أنها دار فناء، لا بقاء لشىء فيها، وإن زها وازدهر.. لا تبيت أحدا على جناح أمن أبدا، وإن أمكنته من كل أسباب السلطان والقوة والعزة.
فهو على طريق ينتهى به دائما إلى نهاية، هى الموت..!!
هذه هى الدار التي كشفت عنها الآية السابقة، وهى دار متاعها غرور، وظلها زائل.. لا يغتربها، ولا يثق فيها إلا من استجاب لداعى هواه، ووساوس شيطانه.
أما الدار التي تشير إليها هذه الآية: {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ..}.
فهى الدار الآخرة، وهى دار أمن وسلام، وخلود، يدعو إليها اللّه سبحانه وتعالى عباده، ويبعث فيهم رسله ليدلوهم عليها، وليكشفوا لهم معالم الطريق إليها.. فمن استجاب لدعوة اللّه، وصدّق برسله، واستقام على دعوتهم، كان من أهل هذه الدار، ومن أهل السلامة والأمن والنجاة، والفوز بنعيم الجنات، وبرضوان اللّه..!
وفى قوله تعالى: {وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} إشارة إلى أنه ليس كل مدعوّ إلى هذه الدار بمستجيب للدعوة، إلا من وفقه اللّه، وشرح صدره لقبول هذه الدعوة، والاستجابة لها.
فالدعوة عامة.. موجهة من اللّه تعالى، إلى عباد اللّه جميعا.. ولكن من كان ممن رضى اللّه عنهم، وأحب أن يكون ضيفا على مائدة فضله وكرمه- جعلنا للّه منهم- هشّ للدعوة وسعى حثيثا إلى جنات ربه، وأما من غلبت عليهم شقوتهم، واستبدت بهم شياطينهم- وعافانا اللّه من هذا البلاء- فإنهم في صمم عن دعوة للّه، لا يسمعونها ولا يستجيبون لها إذا سمعوها.
قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}.
الرّهق: علوّ الشيء للشىء، وغلبته له، وتمكنه منه، بعد أن ينهكه ويرهقه.. كالمتسابقين في الجري مثلا.. يرهق أحدهما الآخر، ويسبقه، بعد أن يجهده ويكدّه! والقتر: الغبار.. وهو هنا كناية عن الشدّة التي تصيب الإنسان، فتظهر آثارها على وجهه، فينطفئ بريقه، ويجفّ ماء الحياة منه.
وتعرض الآية الكريمة، صورة كريمة مشرقة لمن دعوا إلى دار السّلام، وأجابوا دعوة اللّه، وآمنوا به وبرسله، فكانوا من المحسنين، وكان جزاؤهم إحسانا بإحسان، وزيادة مضاعفة على هذا الإحسان.
وفى التعبير بالحسنى عن الإحسان: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى}.
إشارة إلى العاقبة، وأنها العاقبة الحسنى.. فهى تدلّ على الإحسان، وعلى زمن الإحسان معا، وأنها في الدار الآخرة، التي هى دار الجزاء الحق.
كما يقول سبحانه وتعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [83: القصص].
وكما يقول سبحانه: {أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [22- 23: الرعد].
وفى قوله تعالى: {وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ} تعريض بالكافرين الذين سينزل بهم هذا البلاء يوم القيامة، فيركب وجوههم الفتر، وتعلوها الذلة والهوان.
وعدم وقوع هذا بالمؤمنين المحسنين ليس جزاء لهم، وإنما هو لازم من لوازم الجزاء الحسن الذي جوزوا به، فحيث كان جزاؤهم الحسنى وزيادة، وكانت دارهم النعيم والرضوان، فإن القتر لا يطوف بهم، وإن الذّلة أبعد ما تكون عنهم.
فذكر هذا في جانب المحسنين، هو تعريض بالكافرين، الذين سيرهق وجوههم القتر وتركبهم الذلة.. ثم هو- مع هذا- تذكير للمحسنين بالنعيم الذي هم فيه، والرضوان المحفوفين به، وأنهم في عافية مما يحلّ بالكافرين من عذاب ونكال.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}.
ذلك هو حساب الكافرين والمشركين وأصحاب الضلالات في الآخرة، وذلك هو نزلهم يوم الدين.. وتلك هى دارهم يوم القيامة!- {جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها}.
كيلا بكيل، ومثقالا بمثقال.
{وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ.. ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ}.
أي أنهم ينزلون منازل الهوان، والبلاء.
ثم هم مع هذا في يأس قاتل، من أن تمتدّ إليهم يد تخفف عنهم ما هم فيه من عذاب ونكال.. {ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ} يعصمهم من هذا البلاء، ويحول بينهم وبينه.
{كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً}.
قد كسفت وجوههم، وعلتها غبرة، ترهقها قترة، حتى لكأنما غمست هذه الوجوه في قطعة من الليل- في ليلة حالكة السواد، لا يطلع فيها قمر، ولا يلمع فيها نجم، فكانت- لما علاها من غبرة- كأنما قدّت من هذا الليل البهيم.
قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ}.
فى هاتين الآيتين عرض لبعض مشاهد يوم القيامة.. يوم يحشر الناس إلى ربّهم للحساب والجزاء.
وفى هذا المشهد، ينادى منادى الحقّ على المشركين: {مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ}.
أي الزموا مكانكم أنتم وشركاؤكم، لا تتحركوا حتى تحاسبوا على ما ارتكبتم من آثام.
وفى هذه الدعوة الزاجرة الصادعة ما يكشف عن وجه هؤلاء القوم، وأنهم مجرمون، قد ضبطوا متلبسين بجرمهم.. وهذه يد القصاص تمسك بهم، وتقيّدهم حيث هم، إلى أن يلقوا الجزاء الذي هم أهل له.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ} [22- 24: الصافّات].
وفى موقف المساءلة والحساب، فرّق بين الفريقين: العابدين والمعبودين.
فأخذ كل فريق جانبا مواجها للآخر.. {فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ} أي فرقنا بينهم، وأصله من الزوال، وهو ذهاب الشيء واختفاؤه، ومنه وقت الزوال، وهو توسط الشمس في كبد السماء، حيث يختفى ظل الأشياء في هذا الوقت.
وقد جاء اللفظ القرآنى {زيّلنا} بدلا من اللفظ {فرقنا}.
لأن مع التفريق بقية أمل في الاجتماع، أما التزييل، فهو غروب إلى الأبد، واختفاء لا ظهور بعده.
وفى هذا ما يزيد في وحشة المشركين، الذين كانوا يستندون إلى من عبدوهم وأشركوا بهم، وكانوا يتأسّون بمشاركتهم فيما سيقع لهم، ففى هذه المشاركة عزاء لهم أي عزاء.. كما تقول الخنساء:
ولو لا كثرة الباكين حولى *** على إخوانهم لقتلت نفسى
وقبل أن يزايل المعبودون موقف المشركين، ينكرون ما كان بينهم من صلات عقدها المشركون معهم، على غير علم منهم.. قائلين لهم: {ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ}.
ثم يشهدون اللّه سبحانه وتعالى على ذلك: {فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ} أي إننا لا ندرى من أمركم شيئا.
و{إن} هنا هى {إنّ} المؤكدة، خفّفت.. أي إننا كنا عن عبادتكم لغافلين.
وإنكار العبودية على المشركين أنّهم عبدوهم، مع أن اللّه سبحانه وتعالى أعلمهم بهذا، إذ جمعهم بعابديهم- هذا الإنكار يراد به أن هذه العبادة لم تكن عن علم من المعبودين، أو عن دعوة منهم لعابديهم.. فهو تقرير لواقع الأمر، حين وقعت هذه العبادة، وذلك أنهم إنما كانوا يعبدون أصناما جامدة، وأحجارا صمّاء، لا تدرى من أمر عابديها شيئا.. أو بشرا اتخذوهم آلهة لهم بعد موتهم، كما قالت اليهود عن عزيز، وكما قالت النصارى عن المسيح.. وهذا ما يشير إليه قولهم بعد هذا {فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ}.
قوله تعالى: {هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} {تبلو}: من الابتلاء، وهو الاختيار للشىء، والتعرف على حقيقته.
و{أسلفت} أي ما سلف لها من عمل، وما كان لها من سعى.
والمعنى: أنه في هذا الموقف، موقف الحساب والجزاء يوم القيامة، تعرف كلّ نفس ما قدمت من عمل في دنياها لآخرتها.
فهناك يرى الناس أعمالهم على حقيقتها، حيث يكشف الغطاء عن وجوهها، فيعرف الحق من الباطل، والخير من الشرّ، والهدى من الضلال.. {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ} [6: الزلزلة]- وفى قوله تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} إشارة إلى ما كان يتعامل به المشركون والكافرون من ضلالات ومنكرات، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا: {أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ.. فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً} [105: الكهف].

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8